حين سمحوا لنا بالولوج إلى عرض موريس لوقا وطارق حفني في ساحة روابط، وبينما تلمسنا طريقنا في الحلكة إلى مقعد، تبين لنا أن ما بدا في البدء صوت تشيللو مهيئ للأجواء، لهو في واقع الأمر موريس نفسه وقد بدأ عرضه. أوحى وميض وحدات النيون الخاطف التي وضعها حفني حول الساحة بتجربة بديلة، ربما حتى مستغربة وما بعد حداثية. يتبدد ذلك الانطباع مع أول انفجار ضوئي في (كل هذا الوقت الجاري)، حيث يتبدى استخدام حفني لفروع إضاءة الاحتفالات التقليدية في مصر والممتدة فوق رؤوس الجمهور، اختار لها أن تكون عديمة اللون كتلك التي نراها في الموالد. تصير تلك التهيئة المحلية – والبعيدة عن ادعاء الأصالة – مدخلاً لموريس لوقا يسمح له بمقاربة محلية كذلك.
يستكشف لوقا في عمله فكرة موسيقية يعيد بها بناء جماليات بعينها تعود لأعماله السابقة مع بكيا، يستعين فيها بمقطع انتقالي واحد في متتالية قصيرة وحزينة. تتبدى هذه المتتالية بجلاء في (كل هذا) وتتكرر في (لطش) اللتين قدمهما بهذا الترتيب تأكيداً على تلك الفكرة الموسيقية كعماد لعمله الذي يتحدى فيه التكرار التغيير، وأخيراً يعود إليها في نهاية العرض.
بدا اهتمام حفني بما يمكنه أن يشيد مادياً من وحدات الإضاءة هو ما يغلب على اهتمامه بإمكانات تلك الوحدات عديمة اللون، سواء أن كانت نيون أو تنجستين أو أضواء المسرح المسلطة على لوقا، في اقتصاد تقشفي. يتلاعب حفني بتتابعات تلك الأضواء فيما يشبه جملة جيتار من موسيقى الفنك أثناء (لطش) تذكّرنا بتاريخه الموسيقي.
يخفض حفني نبرته – بعد أن استكشف مناطق الاحتقال – مفسحاً الطريق للوقا كي يشيد (تكرر حتى التلاشي) وهي قطعة حزينة وحساسة تستدعي ذكرى حادث الاسكندرية وتنتهي بتلاشي صوت الأمواج على خلفية ضوئية من ومضات فلاش حفني الاتهامية. في هذه المرحلة يحسب الجمهور أن التجهيز قد استنفذ ما لديه ليطرحه، فتأتي الأضواء الغامرة.
ربما كانت (الأضواء الغامرة) أكثر قطع هذا العمل تعقيداً وتجهيزاً وتمرناً. يمهد لوقا الطريق صوتياً ثم يشير لحفني فيبدأ الجنون: كان إسقاط حفني الحي الذي يتلاعب فيه بالزمن متزامناً بدقة مع موسيقى لوقا التي بدورها تغازل وحدات زمنية متكررة التوالي وهي موضوعه المفضل. يصنع بوقا متكرراته ويرصّها في طبقات حتى تفقد سياقها الأول، إلى أن ينتهي به الأمر محصوراً داخلها في محاكاة لمدينة محصورة في لحظة سردية من التاريخ لا مخرج منها. يعاجله حفني بلقطة واحدة لقارب مقلوب مضاء على الطريقة المصرية الحديثة، يبحر للأمام ثم للخلف وفي دوائر. إنه حراك ينبع من الراديكالية ويعبر منها إلى العبثية ثم ينقلب إلى اللاشيء في القطعة التالية: حبيبات كبيرة مبهرة في العدسة ولحن عربي مقلوب.
يذكّرنا الثنائي بعد ذلك بأن العروض السمع-بصرية ليست بدعة في قطعة تشبه عمل بنك فلويد (أجراس الانقسام) في مقدمتها الموسيقية بتآلفاتها الثلاثة المميزة، ويتركنا حفني لنتأمل كرات مبهرة من ألوان دافئة تشبه مصباح اللافا. أخيراً، يتبدى عدم اهتمام لوقا بتجربة جمهوره حتى آخر الدقائق الخمس وأربعين التي تكون منها العرض، ويرفض أن يخرج لتحية الجمهور مرة ثانية رغم عاصفة التصفيق التي انتظرته.
صدر ألبوم موريس لوقا جراية عن 100 نسخة وهي شركة إنتاج محليّة معنيّة بالموسيقى الإلكترونية.