Posts tagged ‘doa aly’

June 19, 2012

الفن قادر – دعاء علي

by M. A.

لـ: دعاء علي

أرأيتم أمراً وحيداً قادراً على إحداث تغييراً حقيقاً؟ قادراً على إثارة حفيظة الإسلاميين والنيوليبراليين على حد السواء، وعلى شق درباً (ابداعياً) جديداً مع وصول الثورة إلى نهاية مطافها: إنه الفن. الفن الحر.

لابد أولاً من التفرقة ما بين حرية التعبير الفني، وحرية الخطاب والتعبير، والأخيرة هي حرية القول والفعل فيما يخص التعاطي مع موضوع واحد بعينه.  إنما حرية التعبير الفني لهي حرية التعاطي مع أي أمر على وجه البسيطة، وتحطيم نير الأشكال والمفاهيم والأطر.  إنها الحرية التي قد تبشّر، إن هلّت، بالثورة.

لم أومن يوماً بأن الفن قد يغير ما بقوم.  إن وصل مسمعي حديث عن دور الفن في المجتمع استحضر ذهني صورة محمود ياسين يصرخ متشنّجاً “الفن رسالة!.” كلا، ما هو برسالة.  إن رسالة الفن الوحيدة هي الفنان، فرد ذو شخصية مستقلة ربما مكّنته رؤيته أن يُعَلِّمنّا مما علم رشداً عن طبيعتنا واختلاف أمرنا وحيرتنا الأخلاقية.  فكلما حدّثنا أفراد أخر عن تفرّدهم عبر الفن، علِم الإنسان كلّيته.  إن جهاد الامتثال والدوغمائية والأدوار سابقة التعيين ليبدأ بإطلاق يد الفن من تطلعات الزمان والمكان والنوع.  الفنان الحر هو من يبدع في حرية لا لكي يثبت حريته، بل هو حقاً من قد تحرر.

وهكذا تصير حرية الفن المصري المحتفاة عقب الثورة أكذوبة.  إنه خطاب يشير إلى فن سُخّر أداةً مُسيّسةً لصوغ أسطورة بعد- ثورية: “ألم تر كيف صار للفنانين أصواتاً؟” أصوات منع عليها أن تنطق بما هو غير الثورة.

“بل لي صوت،” يصيح الفنان مُستناباً عن كل من أُخرست أصواتهم.  نحسب أن الكل واحد في زخم التعاطف وحسن النية، نحسب أننا أحرار، والحق أن حتى افتراض ذلك لهو ضرب من السادية والخديعة.  يسعى الفنان إلى رد فعل محدد من جمهوره، إذ يخفّف من فنه كي تستسيغه الأذواق سعياً وراء اعتراف آني.  فلا يكفيه أن تأتي استجابته للحظة فورية، بل ويسأل جمهوره استجابة فورية لتجربة الفن الذي صار الآن لحظياً.  فلا تتصاعد المشاعر، وإنما يجري استدعاؤها.  ويتلخص دورنا في أن نلبي ذلك النداء، فلا يُسمح بأن نجتاز تلك المشاعر، ولا أن تُفسح المجال لغيرها: فنظل حبساء شكل آخر للمطلق.  لا يضعنا هذا الفن قبالة حسّنا البليد أو ذواتنا المتخمة أو أذهاننا الضئيلة، بل يؤكد لنا أن حواسنا وأحكامنا في محلها، وما أبعدها عن ذلك.

إن ما أبغاه شخصياً من الفن لهو ثائرة الإقصاء، لذة الاقتراب، التجربة.  وفي سعيي اليائس نحوها أجدني أفكك العمل، فآخذ منه ما يرضيني وألفظ ما أكره.  عادة ما آخذه هو الفن، وهنا مربط الفرس: إذ يثبت الفن معاصرته ودرجة اشتباكه مع الأمور حين يهجرهما راضياً.

يستدعي فعل الإنكار هذا مسألة أخرى: أولئك الفنانون والكتّاب وصناع الأفلام الذين عقدوا أمرهم مبكراً بألا تقبع الثورة في أعمالهم، ماذا هم فاعلون؟ فإن كان في قلوبهم الثورة، كيف أتت مقاومتهم؟ أنحبس فناً فنطلق نشاطاً سياسياً؟ كيف لذلك العمل الفني، العمل الذي لا يعيد الكر ولا يشين ولا يهلّل، لا في شكله ولا في محتواه، كيف له أن يبقى تعبيراً أميناً عن كرب صانعه؟ قال كامو أن العالم قد كشف عن وجه غريب بارد، لم يعد ثمة مرسى لحنيننا، ولا مفر من عبثية كل شيء.  إن الأمور ما عادت ما كانت عليه، وليس لنا أن نرتد قافلون.  فإن قلنا بعيش الفنان من حرث إيمانه بنهج رؤيته الذاتية، صارت تلك الردة رياءً واحتساباً.  لقد وقعت الواقعة، انكشفت الغيوم وما عاد في الهجر والترهب – وإن أمكنا – ترياق لامرئ ابتلي بطلب القسطاس.  ولا أر سبيلاً سوى أن ننظر قدماً، وإن بدت تلك قولة غر بسيط.  كفانا التقاماً لأذنابنا ثم لفظها، فما نفع “هوجتنا” إن صارت حطباً لنار البروباجندا والتأريخ؟ حتى أشد الفن نقداً وأكثره تهكماً ينتهي إلى توكيد الوضع الراهن بدلاً من تقويضه، فيرتد دوماً إلى موضوعه الذي يضمن له مكانه في التاريخ البصري.

ويبقى السؤال: ماذا يحدث الفن عن نفسه؟ إن لم يكن اليوم فمتى نصدق بقدرة الفن على التزام أرضه وكتابة التاريخ؟ كيف يبشر الإنتاج الفني بعهد جديد، بالثورة؟

قال فوكو “إننا في عهد التزامن”، عهد التجزئة وليس التخليق، عهد “تجاور القاصي والداني، المتجاور، المشتت.”

سمعت امرئاً يوماً يقول أن أعمال صلاح جاهين قبور مقفلة.  كنا قد شاهدنا لتونا فيلماً قصيراً لمخرج شاب، ألقى في فيلمه زخرفاً من أشعار جاهين.  حقاً كلما تبدت شاطرة من أشعار جاهين لوثها ما كان ورائها من صور، إذ كشف الشعر عن رقة حال ما بدا لنا زخماً من صوت وصورة وحركة رصّت كيفما اتفق.  استبان لي مقصد رفيقي: إن عبقرية جاهين مقفلة كالقبر، كاملة وبهية وقريبة من مقصدها بما يرفعها فوق درجات التجزء والتشرذم.  لقد وضع جاهين قلبه على قارعة طريق الوجد، فاستصغر بالمقارنة كل من سولت له نفسه ولوج ذلك الطريق قسراً.  أكانت الثورة قبراً للفن؟

إن القول بفن صادق وتقدمي يستدعي جهداً واعياً ابتغاء منح هذا العالم خيطاً من نور.  من دون هذا الجهد صار الفن عمل تكثيف، اعتذار، لا يخدم ثقافة ولا حضارة بل ويصبح (للعجب) نخبوياً ومنغمساً في ذاته.  إن الفن قادر، وربما – إن كنا حقاً على مشارف الفصل الثاني من ثورة – سمحنا لذواتنا أن تشيح النظر عنها، عسى أن نجدها مجدداً بعد اجتياز منعطف فطن.

استلهم ذلك المقال من مدونة قرد الرمال
ترجمه إلى العربية: محمد عبد الله