تعين إريت روغوف الفارق بين الانتقاد والنقد والانتقادية في أن الأول يفتش عن العيوب ويصدر أحكاماً بينما يبحث الثاني في صميم الفرضيات التي تحكم انطباعاتنا وقد يطرح منطقاً مقنعاً، في حين يتسلح الثالث بساسيات الثاني ويشغل موقعاً – غير مؤكداً – في داخل الثقافة بينما يعيش ويتعايش مع المسائل التي يعالجها.
مسألتي هنا هي الأول والثاني. حافظ النقد دوماً على تلك العلاقة الخارجية مع موضوعه، مطبقاً ترسانة من المعارف ما بعد الاستعمراتية ونظريات الفروق النوعية وغيرها من السياسات في فحص الفرضيات التي يطرحها عمل ما. ولكن من المؤسف أن يجري انتهاك تلك المسافة المحفوظة وباستمرار من قبل التوجه اليميني نحو الانتقاد بعيداً عن النقد. ترى روغوف أن الاتجاه المتزايد بشكل مطرد لتوجيه اللوم وإظهار التموهات قد مهد الطريق نحو تحالف بين النقد ومشروعات مثل سياسات الهوية، مقوضاً الاحتمال المعقد لشغل الفضاء الثقافي من خلال سلسلة من الازدواجيات والأمور الغامضة.
لا يفوتني بالطبع أن الأسطر الخمس السابقة لن تروق لكثير من المنتقدين معاديي الثقافة، والذين يرون في خطاب (الفن للجميع) ملاذاً لتبرير الكسل والجهل وقمع الحرية الفردية للفنانين والابتعاد عن أي تقدير لقيمة التعبير، ولكنني غير مشغول براحة بالهم بل يقودني ذلك الاستنتاج إلى مقاربة تظهر الوجه المجدور لتحالف آخر. يبدو لي أن تلك الفجوة السحيقة بين الفن والجماهير في اتساع مستمر بسبب أعمال الانتقاد المتصلة والتي يجري فيها -وبشكل منظم – تسخيف الممارسات المعاصرة في الفن والخطاب الانتقادي بل وحتى أي استخدام للغة يحيد بها – والعياذ بالله – عن الطريق الصويب الذي انتهجته كتب اللغة العربية للمرحلة الإعدادية.
هذا التصغير من قدرة اللغة العربية على التعامل مع إشكالات وخطابات معاصرة وكونية – بمقتضى تردد صداها في أي مكان في العالم وبنفس القوة – يقودنا إلى مستنقع بائس من عقد النقص نحو المستعمر السابق/ الحالي وتفوق لغته في الوصول إلى أكثر المعاني اشتباكاً وعصياً. وهو تحالف آخر لذلك التوجه الانتقادي مع خطاب القومية المحافظة والتي تستريب من أي أجنبي أو تعامل معه، وحسبه أن نتعفن في خطابات متحفية ملقّنة في صفوف الدرس وعلى صفحات الجرائد الكبرى وبرامج القنوات الرسمية.
ربما آن الأوان لأن نبحث في سبل تطوير معارف العاملين في الصحافة بشكل عام وفي النقد الفني بشكل خاص. لا أظن أن أحداً يمنح مساحة لمقال يحلل فيه سياسات إيران في التعامل مع الأزمة الاقتصادية دون أن يحمل في رأسه من المعارف ما تؤهله لإطلاق فرضيات، في حين تطالعنا الصحف باستمرار بمقالات تعالج الفن بأكثر السبل سطحية وأبعدها عن أي من مرجعيات النقد المعاصر.