في مصر، مات الفن.
أجل. لم تخونك عيناك الكليلتان: مات الفن في مصر، هكذا طاب لنا أن نستهل مقالنا هذا. مات موت طائر الدودو، موت طائر منقرض يمشي ولا يطير لم يره أي منا يوماً، بل ولم تقع عليه عين قط منذ عهد بعيد.
تنويه: إن ما بين يديك عزيزي القارئ ليس بمقال من صنف تلك المقالات الساخرة المتذاكية والتي تعج بها منصات النشر بالإنكليزية علي الإنترنت، والتي يقوم على كتابتها وتحريرها جحافل من الهواة أنصاف المتعلمين المتمحكين بالثقافة الأنكلوسكسونية مبتسري الموهبة محاربي الفكر، ممن ارتضوا لأنفسهم في الفيسبك منهلاً لمعارفهم، وممن لازال لعابهم يجري لحذاقة ما في كيتش حقبة التسعينيات. كلا، عزيزي القارئ التعس (وإنك لتعس بحق، إن أثارت جيفة دودو متفسّخة أمرًا في نفسك) كلا، ليست هذه بواحدة من تلك الفظائع.
اعتبر ما بين يديك تأبينًا إن شئت، مرثية كتبها قلم نازح. جاء فيها: أن في مصر، مات الفن. ذلك أن الفن – عزيزي عاشق الفنون – يموت حينما يعجز الفنان عن سد عوزه كي ينتج أو يعرض أو يعمّم فنّه. فحين تغدو سياسة الدولة الثقافية هي تبديل رخام درج دار الأوبرا، وحين تقتطع الهيئات المانحة من موازناتها في اللحظة التي نحن فيها في أمسّ الحاجة لبذل المزيد من الموارد بغية ممانعة طوفان الموت والخوف والتطرّف الذي غشى المنطقة، حينئذ تفوح ريح التفسّخ.
يموت الفن متى تدنّي مستوى تعليم الفنون في البلاد إلى أسافل الدرجات، متى تخرّج المئات في معاهدنا كل عام بإجازات في التصوير وتطلْع إلى تكسّب من الحرف اليدوية وتصميم الإعلانات، متى شرعت خيرتنا في اختلاق مدارس خيالية تنشر معارف باطلة لا تنفع، وترسي بلا حياء دعائم شخصية الفنان المعاصر بكل ما قد صار عليه من دجل وتلاعب فارغ بالألفاظ.
يموت الفن متى أغلقت مؤسساتنا أبوابها الواحلة تلو الأخرى من دون حتى رسالة مناصرة. يموت الفن متى منعنا بحكم القانون من حقنا في التجمهر، متى عجزنا عن تكوين نقابة أو اتحاد يخدم مصالحنا المشتركة. حينما تجعل ثقافة الخوف من مهمة تافهة شأن إدارة مؤسسة فنية أمرًا مستحيلًا، فتيقن من انبعاث ريح النتانة.
يموت الفن متى صارت الإعلانات دارًا للتجريب والإبداع على صعيد جماليات الفيديو وتكوينه، وحينما تصير الأفلام (كل الأفلام) خراءًا مبثوثًا. يوم تصير الحلوى المحشوة بالمانجو أو تمثال قبيح على مدخل مدينة منسيّة موضوعات تستوجب سجال حلقات المثقفين لأسابيع، فعلينا أن نقف أمام آنفسنا وأن نقر بإفلاسنا الفكري. يموت الفن يوم تجف قريحتنا، وحين تخلو البلاد من ناقد فني واحد يوحّد العلّام قادر على كتابة مقالًا يستحق عليه راتبه، وحين نحسب النقد واحدًا وتفكّه المقاهي أو سرعة قريحة الفيسبوك. يموت الفن حين لا يعد بيننا من يعرف الكتابة.
يموت الفن متى سمحنا لأنفسنا أن نغدو أداة في يد مضاربي العقارات ضمن مشروع لتنبيل مدينتنا (Gentrify لمن يجهل التعريب) ومن ثم نسهم متحمسين في إضفاء الشرعية على أولئك الذين مانفكوا فرغوا من الترويج لمشروعهم، فسيلقون بنا في الطرقات. يموت الفن متى أنفقنا ملايين الدولارات على مؤسسات لا تخاطب إلا أنفسها وأنفس القائمين عليها، ولا تنتج إلا خطاباتهم.
مات الفن متى بات كل فنان مكروب مرعوب غير ممكّن منهك القوى فاقد الأمل معوز. مات الفن متى صار النزوح ضرورة للبقاء لا خيار، ومتى يعجز الجميع عن الدفع ببرهان أو حجة عاقلة عن إمكانية عودة أعداد من طيور الدودو مهما بلغ صغرها ذات يوم إلى عالمنا.